vendredi 16 décembre 2011

نظرية التلقي

د. بنعيسى  زياني

المصادر المتعلقة بمادة نظرية التلقي :
ــ  هولب :  "نظرية التلقي " ترجمة عز الدين اسماعيل ، النادي الأدبي الثقافي بجدة ، الطبعة الاولى 1995.
ــ إيزر : " أفاق نقد استجابة القارئ " ضمن كتاب  " من قضايا التأويل و التلقي " منشورات كلية الآداب و العلوم الانسانية الرباط ، مطبعة النجاح الجديدة ط:1 1994.
ــ نبيلة إبراهيم  : ( القارئ في النص : نظرية التأثير و الاتصال ) مجلة فصول المصرية ، المجلد 5 العدد1، 1984.
ــ هانز روبير يوس : (جمالية التلقي و التواصل الأدبي ) الفكر العربي المعاصر، بيروت لبنان ، عدد 38
ــ فولفغانغ إيزر :  ( فعل القراءة ، نظرية الوقع الجمالي )  ترجمة أحمد المديني ، أفاق المغربية العدد 6 ، 1987
ــ ميخائيل باختين ، الماركسية و فلسفة اللغة ،ترجمة محمد البكري و يمنى العيد ، دار توبقال للنشر الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 1986
ــ امبيرتو إيكو ، القارئ في الحكاية ، التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية ، ترجمة أنطوان أبو زيد ،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء-بيروت الطبعة الأولى ، 1996
ــ  بول ريكو ، الوجود و الزمان و السرد ، ترجمة سعيد الغانمي ، المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء - بيروت الطبعة الأولى 1999
ــ حامد أبو حمد ، الخطاب و القارئ ، نظريات التلقي و تحليل  الخطاب و ما بعد الحداثة ، مركز الحضارالعربية ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2002
ــ محمد مفتاح :/ التلقي و التأويل ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط1، 1994
ــ عبد الفتاح كيليطو : الحكاية و التأويل ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ط1 ، 1988
ــ  حميد لحمداني :  القراءة و توليد الدلالة ، المركز الثقفي العربي ، الدار البيضاء ط1 ، 2003

مقدمة :

شكل  تحليل النص شغلا شاغلا للنقد العالمي المعاصر حيث تهافثت المناهج على اختلاف مشاربها ، لتنصيب نفسها الحل البديل لتحليل و مقاربة النص
و انطلق التنافس بين المناهج لمحاولت تأسيس مقاربة منطقية ، و أبانت المناهج الحديثة في اشتغالها الدائم على النص ، عن رغبة أكيدة في فرض نظام منطقي محكم ، يتسلح بعلوم اللسانية و المنطقية ، سعيا إلى إحكام سيطرتها عليه بوسائط متباينة مختلفة
** الإرهاصات الأولى في نظرية التلقي **
عرف النقد الحديث و المعاصر مجموعة من المناهج النقدية التابعة للثقافة الغربية ، كالمنهج النفسي و المنهج البنيوي و المنهج الاجتماعي و غيرها ، و ما وقعت فيه المناهج السياقية من إمعان النظر خارج النص ، جاءت المناهج الداخلية و لاسيما البنيوية لتصححه في مقاربة النص بإقصاء الخارج بضروبه المتنوعة ...كالمؤلف و المتلقي ... و بذلك العمر المنهجي الحديث ينطوي على ثلاث لحظات رئيسية : لحظة المؤلف و تمثلت في نقد القرن 19 ، ثم لحظة النص التي جسدها النقد البنائي في الستينات من هذا القرن ، و أخيرا لحظة القارئ أو المتلقي كما في اتجاهات ما بعد البنيوية ، و لاسيما نظرية التلقي
و قد كان الاهتمام بالقارئ و القراءة  شغلا شاغلا للكثير من الدراسات و النظريات ؛ كدراسات " فرجينيا وولف " عن القارئ العادي ، و دراسات الاتجاه المعروف بنقد استجابة القارئ ، و دراسة الاتجاه البنيوي  خصوصا مع " تودوروف " الذي اهتم بالقراءة ..و مع رولان بارت  و كذا بعض دراسات السيميولوجيين و لاسيما " أمبرطو إكو "
**الأصول المعرفية لنظرية التلقي **
إذا كانت الفلسفات الوضعية و التجريبية  هي الظهير الفلسفي للمناهج العلمية و الموضوعية كالبنيوية  فإن  نظرية التلقي تنحدر من الفينومينولوجيا --الفلسفة الظاهرتية المعاصرة
و نجد أغلب هذه المفاهيم التي جاءت بها هذه الفلسفة عن طريق أعلامها و أبرزهم  : " هوسرل " و " غادمير " قد تحولت إلى أسس نظرية و مفاهيم ...و بذلك أصبح المنظور هو المنطلق في التحليل الموضوعي.
و يبدو مفهوم " التعالي" هو النواة المهيمنة في الفكر الظاهرتي ...و قصد به"هوسرل" أن المعنى الموضوعي ينشأ بعد أن تكون الظاهرة معنى محضا في الشعور ، أي بعد الارتداد من عالم المحسوسات الخارجية ، المادية ، إلى العالم الشعوري الداخلي الخالص ... و يعني هذا أن إدراك معنى الظاهرة قائم على الفهم و نابع من الطاقة الذاتية الخالصة الحاوية له .. و هذا ما يسطلح عليه بالتعالي
فالمعنى هو خلاصة الفهم الفردي الخالص .. و عدل ( بتشديد الدال ) " إنكاردن " من دلالة التعالي و منحه بعدا إجرائيا ... و يعني التعالي لديه  أن الظاهرة أو المعنى ينطوي على بنيتين : ــ ثابتة : و يسميها نمطية و هي أساس الفهم ، و أخرى متغيرة : و يسميها مادية و هي تشكل الأساس الأسلوبي للعمل الأدبي.
فالمعنى هو حصيلة للتفاعل بين العمل الأدبي و فعل الفهم  و ثاني المفاهيم للفلسفة الظاهرتية  هو القصدية أو الشعور القصدي ، أي أن المعنى يتكون من خلال الفهم الذاتي أو الشعور النقدي الآني.
* * من نقد استجابة القارئ  إلى جمالية التلقي *
يعد القارئ محورا رئيسيا في المفاهيم الإجرائية و النظرية في اتجاهات نقد استجابة القارئ ، واتجاهات ما بعد البنيوية : كالتفكيكية و التأويلية والسيميولوجية ، و بطبيعة الحال لا تشكل الاتجاهات المختلفة التي تنطوي تحت باب نقد استجابة القارئ   نقدا موحدا من الناحية المفهومية ، بل تمثل مجموعة متباينة في المنطلقات و المناهج و الأدوات ، إلا أنها تكاد تجتمع في اعتراض الرأي القائل : إن المعنى كامن في النص الأدبي و تميل إلى الاعتقاد بأن القارئ هو الخالق الحقيقي للمعنى.
و إذا كانت نظرية التلقي قد ظهرت لتقدم اعتراضا على الفهم أو تقدم اعتراضا على التصورات البنيوية للأدب كما هي الحال بالنسبة لاتجاهات ما بعد البنيوية ... إلا أنها اختلفت عنها و عن النظريات التي اهتمت بالقراءة و القارئ  كونها نظرية تعنى بالفهم لإدراجه في قراءة النص.

المفاهيم الإجرائية لنظرية التلقي:

قدم كل من "ياوس" و "آيزر" مجموعة من المفاهيم النظرية و الإجرائية البديلة لمفاهيم البنيوية سنقف عند أهمها .
فقد طرح ياوس مفهوما جديدا أطلق عليه " أفق القارئ " يمثل الفضاء الذي تتم من خلاله عملية بناء المعني، و رسم الخطوات المركزية للتحليل و دور القارئ في إنتاج المعني عن طريق التأويل الأدبي الذي هو محور اللذة و رواقها لدا جمالية التلقي أذا ما كان الوسيط اللساني هو محور اللذة و رواقها عند البنيويين .
و وجد "ياوس" افتراضات غادمير الأساسية في العملية التأويلية ، سندا لمنهجيته ، و قد جعل غدامير العملية التأويلية خاضعة لثلاث تأويلات لازمة ، هي : الفهم و التفسير و التطبيق كما تتألف الأنظمة المرجعية لأفق الانتظار بحسب ياوس من ثلاثة عوامل رئيسية هي :
1.    التجربة المسبقة التي اكتسبها الجمهور عن الجنس الذي ينتمي إليه النص .
2.    شكل الأعمال السابقة و موضوعاتها (ثيماتها) الذي يفترض معرفته .
3.    التعارض بين اللغة الشعرية و اللغة العملية أي التعارض بين العالم التخيلي و الواقع اليومي.
و فضلا عن هذا نبه "ياوس "على مفهوم تغير الأفق أو بناء أفق جديد يدعوه بالمسافة الجمالية أي المسافة الفاصلة بين الانتظار الموجود سلفا و العمل الجديد ، حيث يمكن للتلقي أن يؤدي لتغير الأفق بالتعارض الموجود مع التجارب المعهودة حيث يخيب ظن المتلقي في مطابقة معاييره السابقة مع معايير العمل الجديد ، و هذا هو الأفق الذي تتحرك في ضوئه الانحرافات أو الانزياح عما هو مألوف .
و يعد "فولفغانغ" آيزر أحد أقطاب جامعة "كونستانس" الذي أسهم في تطوير نظرية التلقي و وضع أسسها ولم يكن منحاه فلسفيا أو تاريخيا كما هو واضح عند "ياوس" بل اعتمد على مرجعيات متنوعة غدت فرضياته ، فاعتمد على مفاهيم علم النفس و الظاهراتية و اللسانيات و الأنتربولوجيا و أفاد من أعمال "إنكاردن" ( البولندي) و حاول آيزر أن يمنح القارئ القدرة على منح النص إما التوافق أو التلاؤم ، فوجد أن التلاؤم ليس معطى نصي و إنما هو بنية من بنيات الفهم التي يمتلكها القارئ و يبنيها بنفسه لأنه مقصود لذاته بقصد تحقيق الاستجابة و التفاعل النصي الجمالي ، و من هنا افترض "آيزر" أن في النص فجوات تتطلب من القارئ فهمها بالقيام بالعديد من الإجراءات التي تستند إلى مقاربة التفاعل بين بنية النص و بنية الفهم عند القارئ .
بقي أن نقف عند مفهوم القارئ الضمني لديه الذي يشكل قمة الهرم فما ابتدعه "آيزر" من مفاهيم و خطوط إجرائية .
القارئ الضمني عند "آيزر" مختلف عن القراء الآخرين الذين حددتهم القراءات البنيوية و الأسلوبية كالقارئ المثالي و المعاصر ...
فقارئ "آيزر" ليس له وجود حقيقي ، إنه يجسد التوجيهات الداخلية لنص التخيل لكي يتيح للقارئ الحقيقي أن يتلقى .
إن القارئ الضمني هو تصور يضع القارئ في مواجهة النص في صياغة موقع نصي يصبح الفهم بالعلاقة معه فعلا. فهو ينص إذن على تحقيق فعل التلقي من خلال استجابات فنية .

~ مظاهر التميز في نظرية التلقي:
ترى نظرية التلقي أن القارئ ملزم بتوظيف قدراته و ثقافته و خبرته في تحليل النص، سعيا إلى فك شفراته و سبر أغواره، و هذا ما يحقق المتعة للقارئ و المبدع معا وهذا ما جعل عدة شعراء يثورون و يستفزون النقاد عبر التاريخ في إطار تلقي أشعارهم و انتقادها.
يقول مايكل ريفاطير : "إن الشعر يعبر عن مفاهيم و معان تعبيرا غير مباشر و إن القصيدة قد تقول شيء و تعني شيئا آخر".
و قد ميز طودوروف بين ثلاثة أنواع  من القراءة :
1.    القراءة الاسقاطية : و هي أسلوب خاص من القراءة تتميز بالاجترار و النمطية، لا تركز على النص و لكنها تمر من خلاله أي تجعل النص معبرا نحو المؤلف و المجتمع ، و تعامل النص على أنه وثيقة لإثبات قضايا شخصية ، اجتماعية ...
2.    قراءة الشرح : و هي قراءة تركز على النص و لكنها تهتم فقط بظاهر معناه و تعطي المعنى قيمة يرتفع بها فوق الكلمات ... إذن هي تعتمد على وضع كلمات بديلة لنفس المعاني عن طريق اجترار ساذج لنفس الكلمات .
3.    القراءة الشاعرية :  و هي قراءة النص من خلال شفراته بناءا على معطيات سياقه الفني بهذا يصير النص قوة مندفعة لكسر كل الحواجز بين النصوص... و من ثم فالقراءة الشعرية تطمح إلى كشف ما هو كامن في باطن النص، سعيا إلى سبر أغواره و فك ملغزاته، و بذلك فهي تتجاوز اللفظ الحاضر إلى عميق معانيه الجمالية و تكشف ما هو كامن في باطن  النص ، و تقرأ فيه البنية العميقة ، و هذا النوع من القراءة هو ما نحتاج إليه و يتطلب القارئ الكفء الذي يمنح الحياة للنص من خلال القراءة المنتجة و هو ما عناه هانز روبرت ياوس في كتابه جماليات التلقي حيث أكد أن النص لا يوجد و لا يكتسب هويته إلا بعد إعادة إنشائه أو تجسيده داخل عقل قارئه، و هو ما جعل بعض نقاد نظرية التلقي يمنحون القارئ حرية مطلقة في القراءة و يذهبون إلى أن دوره يتعدى الإجابة عن السؤال ( ماذا تعني القصيدة )؟ أو ما المعنى المراد من النص ؟ ليكون في صيغة هذا السؤال : كيف يصنع القراء معنى القصيدة ؟ و قد أدى هذا التسامح إلى إفراز سلبيات عدة ، منها ما نراه عن بعض النقاد من شطحات في التأويل ، و تحميل النص أكثر مما يحتمل ، و الوقوع في دوائر الذاتية و الانطباعية و الانزلاق إلى ما يشبه الفوضى في القراءة و التأويل .
و في ذالك خروج بالنظرية عن مضمونها ، لأن النص في جوهره شبكة من العلاقات اللغوية و المجازية المتشابكة ، و له قوانينه و مفاتيحه و أبنيته التي تجعل منه تركيبة معقدة لا يتأتى للقارئ فك شفراتها إلا من خلال فهم عميق و تمحيص دقيق و كفاءة تتيح له سبر أغواره .

و من ثمة يمكن اعتبار القارئ جوهر مكونات نظرية التلقي التي شكلت بديلا منهجيا فعالا ، حين أعادت الاعتبار لهذا العنصر ، و بوأته المكانة اللائقة على عرش الاهتمام الذي تناوبه المؤلف و النص من قبل ، يقول هانز روبرت ياوس في كتابه " جمالية التلقي " : ( القارئ ضمن الثالوث المتكون من المؤلف و العمل و الجمهور، ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر دوره على الانفعال بالأدب ، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ ) ، و هذا الأمر يستهدف نظرة جديدة للعلاقة بين التاريخ و الأدب ، مما يعني إلغاء الأحكام المسبقة المنطلقة من النظرة الموضوعية التاريخية التي سادت لفترة طويلة. لذا يرى ياوس أن العلاقة الحوارية تفرض علي مؤرخ الأدب " أن يتحول أولا و باستمرار إلى قارئ قبل أن يتمكن من فهم عمل و تحديده تاريخيا .
و إذا كان الاهتمام بالقارئ يشترك فيه جميع منظري التلقي فإن الاهتمام انصب حول تحديد سمات هذا القارئ ، حيث خلص الدكتور إدريس بلمليح إلى تحديد أربعة أنماط من القراء :
-         القارئ النموذجي : الذي استعمله المفكر الأسلوبي مكاييل ريفاتير ليحدد في ضوئه مظاهر القراءة الأسلوبية التي تتطلب شخصا متمرسا كل التمرس بنظام لغة الشعر، و مدركا لطبيعة الاختلاف بين هذه اللغة و بين اللغة اليومية.
-         القارئ الخبير : و يتلخص فعله بالسعي الدائم في إخصاب مضامين النصوص التي تعتبر وثائق أفكار و أحاسيس تنقلها اللغة .
-         القارئ المقصود : و من يوجه إليه النص حين ظهوره المبدئي أي الذات الجماعية التي عاشت الأوضاع التاريخية للمبدع  ثم الذات التي تشكل استمرارا مباشرا للنص ، و تقمصا جديدا لفعله في إطار نوع من التكامل بينهما .
-         القارئ الضمني : و يرى الدكتور بلمليح أن امبرطو إيكو هو أول من حدد هوية هذا القارئ، و يكمن القارئ الضمني في ذهن المبدع ، و يتجلى في النص المبدع  و يختلف من مبدع إلى آخر، حسب ما يمتلكه و يختزله في شخصيته من تراث إبداعي و أدبي و مالديه من موهبة و طاقة خلاقة تساعده على تخيل القارئ الضمني ... بطريقة تكون أقرب إلى المثال كلما كان المبدع أعمق ثقافة و أكثر موهبة .
لذلك يرى بعضهم أن القارئ الضمني لا يتوافر عند جميع المبدعين فهناك من يكتبون دون وعي و مخزونهم الثقافي قليل و بالتالي فهم يخرجون الغث و السمين ، لأنه ليس لهم قارئ ضمني يراقب و يتابع و ينقح نتاجاتهم الأدبية  و من زاوية أخرى يذهب البعض إلى أن القارئ الضمني  قد يتحول أحيانا إلى عائق أمام المبدع، فهو لا يرضى عن معظم ما ينتجه، و لعل هذا القارئ الأخير شغل مساحة مهمة من فكر منظري التلقي، لاسيما ايزر الذي فصل في مفهوم هذا القارئ ، إذ يرى ـــ في كتابه " فعل القراءة ، نظرية جمالية التجاوب في الأدب " ـــ أنه مجسد كل الاستعدادات المسبقة الضرورية بالنسبة للعمل الأدبي كي يمارس تأثيره ، و هي استعدادات مسبقة ليست مرسومة من طرف واقع خارجي و تجريبي، بل من طرف النص ذاته، و بالتالي فالقارئ الضمني كمفهوم، له جذور متأصلة في بنية النص؛ إنه تركيب لا يمكن بتاتا مطابقته مع أي قارئ حقيقي.
و قد بين روبرت هولب في كتابه نظرية التلقي ( ترجمة عز الدين اسماعيل ) أن ايزر نسخ مفهوم القارئ الضمني عن مفهوم المؤلف الضمني لواين بوث في كتابه بلاغة الفن القصصي .. و عموما فإن الاهتمام بالقارئ عند رواد نظرية التلقي واكبته نظرة جديدة إلى هذا القارئ؛ نظرة تهدف غلى تجاوز سلبته ، فغدا صاحب فعل جديد يصل إلى حد المشاركة في صنع المعني لأن ما تبحث عنه نظرية التلقي حسب عبد العزيز حمودة كتاب " الخروج من التيه " هو القارئ الذي يتجاوز البنية السطحية لأن القارئ الذي يتوقف عند مرحلة فهم المعاني اللفظية أي العلامات اللغوية داخل أنساق يحكمها قانون التوحد بين طرفي العلامة ، ليس هو القارئ الذي يتحدث عنه أصحاب نظرية التلقي ، لأن هذا القارئ لن يكون قادرا على " ملء فراغات النص "، وقيام القارئ بملء فراغات النص هو جوهر التلقي .. فما المقصود بالفراغ أو الفجوة ؟؟ وهل المعنى موجود سلفا في النص كما قصده المؤلف ؟ أم يصنعه القارئ؟
II)- بناء المعنى :                                                 
قبل الحديث عن المعنى عند أصحاب التلقي ، لابد من تحديد مفهوم الفراغ أو الفجوة، مفهوم ارتبط برومان انجاردن  الذي رفض في فلسفته الظاهراتية ثنائية الواقع و المثال في تحليل المعرفة و رأى أن العمل الفني الأدبي يقع خارج هذه الثنائية، فلا هو معين بصورة نهائية ، و لا هو مستقل بذاته و لكنه يعتمد على الوعي و يتشكل في هيكل أو بنية مؤطرة، تقوم في أجزاء منها على الإبهام الناشئ عما تشتمل عليه من فجوات أو فراغات يتعين على القارئ ملؤها و يرى صاحب كتاب " المرايا المقعرة " _ أن الهيكل أو البنية المؤطرة التي يتحدث عنها انجاردن ، تتشكل من أربع طبقات للعمل الأدبي هي : " أصوات الكلمات ، و معاني الكلمات ، و الأشياء التي يمثلها النص ، و أخيرا الجوانب التخطيطية "
فإذا كانت الأشياء في الواقع لاتحتمل غير معنى واحد و محدود و معروف ، فإنها على النقيض من ذلك في العمل الأدبي حسب روبرت هولب ، لذا " ينبغي لها أن تحتفظ لنفسها بدرجة من الإبهام " ، و هذا الإبهام يقوم القارئ بتحديده، و هو ما يصطلح عليه التحقق العياني الذي هو " نشاط يقوم به القراء يتعلق باستعداد العناصر المبهمة أو الفراغات ، أو الجوانب المؤطرة في النص أو بملئها " حسب هولب.
بيد أن ملء الفراغ ، يختلف باختلاف قدرات القراء و مهاراتهم في سبر أغوار النص و فك شفراته لأن القراء في ممارستهم عملية التحقق العياني يجدون الفرصة كذالك لإعمال خيالهم ، ذلك بأن ملء الفراغات بأشياء محددة يتطلب قوة إبداعية ، يضيف إليها انجاردن المهارة و حدة الذهن كذلك ،  و بهذا نقترب من التفاعلية التي اشتهر بها ايزر ، و حديثه عن إنتاج المعني ، لاسيما إذا كنا أمام قارئ يمتلك خيالا خصبا ، و ذهنا حادا، ذلك أن ايزر حسب روبرت هولب : " ينظر إلى معنى النص على أنه من إنشاء القارئ و لكن بإرشاد من توجيهات النصية ، و من ثم فإن القراء أحرار في ظاهر الأمر في أن يحققوا بطرق مختلفة معاني مختلفة تحقيقا عيانيا ، أو في أن يخلقوها خلقا " و من هنا فإن ايزر و ياوس كليهما ينظران إلى أن المعنى يتحقق نتيجة التفاعل بين القارئ و النص كما يوضح ذلك عز الدين إسماعيل قائلا : " فهم ياوس التفسير على أنه نشاط القارئ في فهم النص ، وكذلك الشأن بالنسبة لايزر الذي ذهب إلى أن المعنى لا يستخرج من النص، أو تشكله المفاتيح النصية ، بل الأحرى أنه يتحقق من خلال التفاعل بين القارئ و النص و التفسير عندئذ لا يستلزم استكشاف معنى محدد للنص.
نستخلص من هذه المقارنة التي عقدها الدكتور عز الدين إسماعيل بين قطبي التقي : ياوس و ايزر، أن النص لا يحمل قصدا معينا ، و المعنى لا يستخرج من النص كشيء ثابت محدد ، بقدر ما يكون البحث عنه ( التفسير) نشاطا يقوم به القارئ في فهم النص على حد تعبير ياوس ، و كفى بهذا دليلا على نفي القصدية كما يؤكد ذلك الدكتور عبد العزيز حمودة قائلا : ( موقف أعضاء نادي التلقي من القصدية ، يتفق مع ما انشغلوا به من نقل سلطة التفسير بالكامل إلى القارئ أو فعل القراءة ، ففي ظل هذا التحول الجديد لا يصبح لقصد المؤلف أو النص مكان في القراءة التأويلية ، و لهذا يتفق أصحاب التلقي في إجماع ، باستثناء صوت واحد تقريبا هو صوت هيرش ، على نفي القصدية حسب صاحب كتاب الخروج من التيه.
بيد أن نفي القصدية و نقل سلطة التفسير إلى القارئ ، مع ما يواكب ذلك من تعدد القراءات للنص الواحد ، بل وتعدد قراءات القارئ الواحد للنص الواحد ، كل ذلك أسهم في دق جرس خطر الفوضى، و هو ما تنبه له رواد النظرية كما بين ذلك الدكتور حمودة قائلا : " لقد اشتركوا جميعا في إدراك مخاطر نظرية التلقي، و في مقدمتها فوضى التفسير بالطبع ، و هكذا حاولوا جميعا تقديم ضوابط للتفسير تتمثل عند البعض بالجماعة أو الجماعات المفسرة ، و أسماها آخرون بأفق التوقعات التي يجيء بها الفرد إلى النص في بداية فعل القراءة فما مفهوم أفق التوقع ؟ و ما موقعه ضمن نظرية التلقي ؟ 

3-- أفق التوقع :
إن المتلقي / القارئ حين يبدأ في الممارسة النقدية لعمل إبداعي ما فإنه يتوقع منه أن يستجيب لأفق انتظاره، ويتناغم مع الثقافة المعرفية والخبرة الجمالية التي اكتسبها فيما سبق، وتشكل له في الوقت نفسه تصوره للظاهرة الأدبية ولذلك يؤكد هانز جورج  جادامر Hans georg gadamar في كثير من مواضع دراسته المطولة (الحقيقة والمنهج) Truth and method  على أهمية الأفق في تحديد استقبال القارئ للنص أو حدوث المعنى، بل إنه يتجاوز ذلك إلى القول بأن معنى النص يحدده الأفق بصورة مسبقة.
أما النص الذي يمتلك المقومات الفنية العالية والقيمة الجمالية المرتفعة فإنه لا يهم أن يكون متوافقا مع أفق القارئ أو مختلفا معه أومتصادما مع طبيعة استجابته،  فهذا النوع من النصوص هو وحده القادر على أن يؤثر على القارئ وينفد إلى نفسه ويقلب لديه الموازين، خصوصا حين يكون أفق ذلك النص مختلفا عن أفق انتظار القارئ و مخيبا لأفق توقعه، و النص الذي استطاع  أن يفعل ذلك على الرغم من هذا الاختلاف هو بلا شك نص استثنائي و خطاب متميز على المستويات كافة .
و بناءا على ما سبق فإن العمل الأدبي قد يراعي أفق انتظار القارئ عندما يستجيب لمعاييره الفنية و الجمالية والأجناسية عبر عمليات المشابهة النصية و المعرفة الخلفية و قواعد الأجناس و الأنواع الأدبية التي يعرفها في نظرية الأدب، و لكن قد يخيب توقعه و يفاجأ إذا واجه نصا حداثيا  جديدا لم ينسجم مع القواعد التي يتسلح بها في مقاربة النص الأدبي، فعندما يقوم القارئ بممارسة القراءة للنصوص المعتادة، المكررة فإنها بلا شك ستراعي أفق انتظاره لأنه تعود على قراءتها من خلال معايير و آليات تجنيسية و تحليلية معروفة، بيد أنه إذا قام بهذه الممارسة لنصوص متميزة و مختلفة عن أفق توقعه، فإنها بطبيعة الحال ستصدمه بطرائق  فنية جديدة تنزاح عما ألفه من مفاهيم القراءة التقليدية بسبب الانزياح الفني بين الطرائق الموجودة في النصوص التقليدية و النصوص الحديثة و هذا يعني أن هناك مسافة جمالية – كما يسميها ( هانز روبرت ياوس) – تربك القارئ و تجعل توقعه الانتظاري خائبا بفعل هذا ( الخرق الفني و الجمالي) الذي يسمو بالأعمال الأدبية و يجعلها خالدة .
و يقصد ياوس بالمسافة الجمالية : ذلك البعد القائم بين ظهور الأثر الأدبي نفسه و أفق انتظاره، و أنه لا يمكن الحصول على هذه المسافة من استقراء ردود أفعال القراء على الأثر، أي من تلك الأحكام النقدية التي يطلقونها عليه، و هو يؤكد هنا على أن الآثار  الأدبية الجيدة هي تلك التي تنمي انتظار الجمهور بالخيبة، إذ إن الآثار الأخرى التي ترضي آفاق انتظارها  و تلبي رغبات قرائها المعاصرين هي آثار عادية جدا تكتفي عادة باستعمال النماذج  الحاصلة في البناء و التعبير، و هي نماذج تعود عليها القراء ،و بالتالي  فإن آثارا من هذا النوع ، هي آثار للاستهلاك السريع ، سرعان ما يأتي عليها البلى ، أما الآثار التي تخيب آفاق انتظارها و تغيظ جمهورها المعاصر لها، فإنها آثار تطور الجمهور و تطور وسائل التقويم و الحاجة من الفن، أو هي آثار ترفض إلى حين حتى تخلق جمهورها خلقا، و هناك نصوص تغير أفق انتظار القارئ الذي يجمع بين الذكاء و الفطنة حيث يتعلم بسرعة  كل ما هو جديد،
و يتكيف مع كل نص طليعي أو حداثي؛ حيث يغير هذا القارئ من آليات قراءته و أدواته حتى ينسجم مع معطيات النصوص المفتوحة.
لقد بين الدكتور ع. العزيز حمودة أن محور نظرية التلقي الذي يجمع عليه رواد النظرية هو أفق التوقع قائلا: " إن محور نظرية التلقي الذي يختلف عليه أي من أقطاب النظرية منذ ظهوره في الثلاثينيات حتى الثمانينات هو ' أفق توقع القارئ في تعامله مع النص ' ، قد تختلف المسميات عبر الخمسين عاما، ولكنها تشير إلى شيء واحد: ماذا يتوقع القارئ أن يقرأ في النص؟ و هذا التوقع، و هو المقصود، تحدده ثقافة القارئ، و قراءاته السابقة، أو تربيته الأدبية و الفنية"
و يرى " هولب" أن "ياوس" قد عرف مصطلح الأفق تعريفا غامضا للغاية ، معتمدا في إفهامه على الإدراك العام لدا القارئ ، ثم يخلص إلى أن مصطلح أفق التوقعات ربما ظهر ' لكي يشير إلى نظام ذاتي مشترك أو بنية من التوقعات، إلى " نظام من العلاقات" أو جهاز عقلي يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي نص".
رغم أن ياوس قد سعى إلى أجرأة هذا المصطلح من خلال محاولة موضعته، حيث عرفه بدقة حين قال: " و نقصد بأفق التوقع نسق الإحالات القابل للتحديد الموضوعي  الذي ينتج، - و بالنسبة لأي عمل في اللحظة التاريخية التي ظهر فيها - ، عن ثلاثة عوامل أساسية: تمرس الجمهور السابق بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل ، ثم أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل ، و أخيرا التعارض بين اللغة الشعرية و اللغة العملية ، بين العالم الخيالي و العالم اليومي "
ففي هذا النص الذي لا يستغني عنه أي دارس لنظرية التلقي عموما، و لمصطلح أفق التوقع خصوصا، يحدد ياوس العوامل الأساسية التي تصنع نسق الإحالات القابلة للتحديد الموضوعي أي أفق التوقع، و يحصرها في ثلاثة عوامل:
1-      المعرفة القبلية التي يكتسبها القارئ عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل الأدبي الذي سيقرأه... ذلك أن العمل الأدبي – حتى في لحظة صدوره حسب ياوسلا يكون ذا جدة مطلقة إنما  تظهر فجأة في فضاء يباب ....
2-       "أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل " أو ما عبر عنه ياوس في موضع آخر ب" العلائق الضمنية التي تربط هذا النص بنصوص أخرى معروفة تندرج في سياقه التاريخي حيث إن النص الجديد : " يستدعي بالنسبة للقارئ ( أو السامع) مجموعة كاملة من التوقعات و التدبيرات التي عودته عليها النصوص السابقة  و التي يمكن في سياق القراءة أن تعدل أو تصحح، أو تغير أو تكرر" 
        فالقارئ يبني أفقا جديدا من خلال اكتساب وعي جديد، و ذلك بعد التعارض الذي يحصل له عند مباشرته للنص الأدبي بمجموعة من المحمولات الفنية و الثقافية  و بين عدم استجابة النص لتلك الانتظارات و التوقعات
3-  التعارض بين اللغة الشعرية ( العالم الخيالي)  و اللغة العملية ( العالم اليومي)، الشيء الذي يسمح بمزاولة مقارنات أثناء القراءة بالنسبة للقارئ المتأمل إذ إن " هذا العنصر الأخير يسعف القارئ على إدراك العمل الجديد تبعا للأفق المحدود لتوقعه الأدبي، وتبعا كذلك لأفق أوسع تعرضه تجربته الحياتية".
يتضح مما سبق أن ياوس يفترض في القارئ معرفة مهمة، تكتسب عن طريق الدراية و الممارسة من خلال معاشرة النصوص  و الإحاطة بالسنن الفنية التي تميز بين الأجناس الأدبية  حيث يقول الدكتور أحمد بو حسن في هذا الصدد في كتابه " نظرية التلقي و النقد العربي الحديث"  :  " و يكون القارئ مدركا لتوالي النصوص في الزمان، بحيث ينفذ ببصيرته إلى النصوص التي تأتي باختلالات  أو تشويشات جديدة على التقاليد الفنية القديمة ، ثم يلتقط القارئ تلك البذور الفنية الجديدة  التي تقوى على طرح تساؤلات جديدة على الانتظارات التقليدية  الجارية المعهودة "
و خلاصة القول إن نظرية التلقي قد شكلت ثورة في دراسة الأدب حين أنصفت الركن المغيب " المتلقي" الذي ظل غائبا عن المناهج و النظريات السابقة التي ركزت على المبدع أو النص.


فستان التفتا
أرأيت فستاني ؟ 
حققت فيه جميع ما شئتا 
.. وشيا .. ونمنمه 
.. وطرائفا شتى 
أرأيت فستاني ؟ 
أرأيتني ؟ 
أنا بعض نيسان 
أنا كل نيسان 
أرايت فستناني ؟ 
.. صنعته حائكتي 
من دمع تشرين 
من غصن ليمون 
.. من صوت حسون 
إخترته لونا حشيشيا 
لونا يشابه لون عينيا 
.. فصلته 
شكلا أثيريا 
فأنا به أخفى من الرؤيا 
ومشيت .. لم أسال عن الدنيا 
ما همني الدنيا 
..أنا الدنيا 
ورجعت أحمله إلى البيت 
وأخذت أمسحه وأطويه 
.. أسقيه ، أطعمه ، أغنيه 
.. لأجيء فيه ليلة السبت 
.. لتكون .. أول من الاقيه 
أمس أنتهى .. فستاني التفتا 
.. من عند حائكتي 
أكمامه عشب البحيرات 
أزراره .. كقطيع نجمات 
أمس انتهى .. لم تدري والدتي 
.. فيه .. ولم أخبر رفيقاتي 
.. ما قصتي ؟ أثلاث ساعات 
وأنا أدور أمام مرآتي 
أقصيه عن صدري .. وأدنيه 
أرجوه ، أساله ، أناديه 
وأعده للموعد الآتي 
.. حتى تراني فيه 
أمس انتهى فستاني التفتا 
ما همني رأي الرفيقات ؟ 
 يكفي إذا أحببته أنت !

       نزار القباني .               


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire