vendredi 16 décembre 2011

سيميولوجيا التواصل

د. العمراني
بعض المراجع الأساسية
   
         ــــ  امبرطو إيكو : السيميائية و فلسفة اللغة 
ــــ سيزا القاسم  : مدخل إلى السيميوطيقا 
** Roland  Barthes :  -- éléments de sémiologie 
-- Aventure sémiologique
-- Rhétorique de l'mage
** Emille  Benvemiste :  -- Problème de linguistique générale
** Gérard de Ladelle  :  --Théorie et pratique du signe 
** Ferdinant de Saussure :  -- Cours de linguistique général 
** Umberto Eco : -- Sémiotique du discours 
** Bernard  Toussaint : Q'est ce que la sémiologie   









الدرس :
إن استحضار سوسير للسيميولوجيا، استحضار من أجل تحديد موقع اللسانيات ضمن الوقائع الإنسانية أي ضمن العلوم ؛ إذ هي لا ترتبط بشكل أوثق إلا بهذا العلم الذي لم يتأسس بعد. و الذي لا يزال مجرد تصور، و مشروع نظري غير متبلور بعد .
يقول سوسير : "'  إن اللسان نسق من العلامات المعبرة عن الأفكار و هو بهذا شبيه بأبجدية الصم البكم و بالطقوس الرمزية و بأشكال الآداب و الإشارات العسكرية ، إلا أنه يعد أرقى عنصرا داخل هذه الأنساق ، من هنا تأتي إمكانية  البحث عن علم يقوم بدراسة هذه العلامات داخل الحياة الاجتماعية، علم قد يشكل فرعا من علم النفس الاجتماعي و بالتالي من علم النفس العام. و سوف نسميه السيميولوجيا ــ ( من سيميو sémion  الإغريقية وتعني العلامة)ــ و ستكون مهمته هي التعرف على كنه هذه العلامات و على القوانين التي تحكمها، ومادام هذا العلم غير موجود بعد فلا أحد يستطيع التكهن بماهيته ؛ و لكن له الحق في الوجود و موقعه محددا سلفا "'.
فسوسير انطلاقا من هذا التعريف لم يتطرق إلى السيميولوجيا إلا عرضا أي ليس كعلم قائم بذاته حيث كان شغله الشاغل إيجاد موضع قدم للسان ضمن الوقائع الانسانية.
و من هنا ارتبط تعريفه و تحديده للسيميولوجيا بتعريفه للسان، باعتباره أرقى الأنساق السابقة الذكر؛ و بهذا المعني يمكن القول أن سوسير لم يتجاوز التنبأ المادي بوجود هذا العلم.
إن تصور علم يقوم بدراسة و كشف آليات اشتغال الأنساق المختلفة و التي تشتمل على عدة أصناف من الدلائل ، مؤداه أن الدلائل اللسانية ليست سوى صنف خاص من مجموع الوقائع الانسانية.
"' إن اللسانيات ليست سوى فرع من هذا العلم العام ، والقوانين التي ستكشفها السيميائيات، ستكون قابلة لأن تطبق على اللسانيات و هكذا ستجد اللسانيات نفسها مرتبطة مجددا بمجال أكثر تحديدا ضمن مجال الوقائع الانسانية "' سوسير .
و تتميز العلامة اللسانية عنده بالخطية ، والاعتباطية؛ كما تقتصرالاعتباطية على العلامة اللسانية دون تجاوزها إلى ما هو غير اللساني مما يجعل الاعتباطية تبقى الوحيدة في مركز السيميولوجيا السوسورية .
فالذي يربط اللسانيات بالسيميولوجيا كما يقول Benveniste الفرنسي: هو هذا المبدأ الذي وضع في صلب اللسانيات كون أن العلامة اللسانية اعتباطية .
بصفة عامة سيكون موضوع السيميولوجيا مجموع الأنساق القائمة على اعتباطية الدليل . و هذا يشكك في انتماء أنساق الدلائل غير الاعتباطية إلى السيميولوجيا لأن هذه الدلائل حسب سوسير لا تدل بواسطة رابط من هذا النوع و إنما تدل تدل بواسطة التعاقد الذي يثبتها، و بمعنى ما ، وجود مثل هذه الروابط الغير التعاقدية لمن شأنه أن يعتم طبيعة الدليل الحقيقي ،و لهذا السبب '' تحقق الدلائل التامة الاعتباطية ، أفضل نموذج الطريقة السيميولوجية '' .
و بهذا تكون اللسانيات على حد تعبير سوسير النموذج العام لكل سيميولوجيا . إن السيميائيات وفق هذا التصور السوسيري ، علم شمولي و متحكم في رقاب اللسانيات التي تستمد مشروعية وجودها من مشروعية وجود ذلك العلم العام.
إلا أن السيميائيات ليست بعد علما مستقلا و ليس لها موضوع خاص ...  
فإذا كان من يعتقد أن سوسير هو المؤسس الحقيقي للسيميولوجيا فإن اعتقادهم ذاك يحيد عن الصواب ، حيث أنه لم يقدم علما له أدواته و الإجرائية و النظرية قائمة بذاتها ، و إنما كانت صرخة أطلقها وقت اشغاله بالنموذج اللساني باعتباره المدخل الرئيسي للمشروع السيميولوجي ، و مع ذلك تبقى مساهمة سوسير و رغم ما يشوبها من نواقص محاولة لتعبيد الطريق نحو تأسيس السيميولوجيا,
IIـــ شارل ساندرس بيرس:
يعتبر بيرس من مؤسيسي السيميوطيقا الحديثة نظرا لكونه قدم نظرية شاملة و متماسكة و منفتحة على عدة مجالات معرفية. و قد حددها بيرس بقوله : " إنه لم يكن بوسعي أن أدرس أي شيء مثل الرياضيات و الميتافيزيقا و الجاذبية و ديناميكا الحرارة و البصريات و الكيمياء و علم الفضاء و علم النفس و الصوتيات و لاقتصاد و تاريخ العلوم و لعبة الورق ...إلا بوصفه دراسة سيميوطيقية".
و يقول في موضع آخر : " إنني في حدود علمي رائد في فتح اتجاهات فيما أسميه السيميوطيقا و أجد أن الحقل شاسع و العمل جد صعب بالنسبة لي باعتباري أول من تناول العمل."
إذا كان الجهاز المفاهيمي لسيميولوجية سوسير نابعة من اللسانيات ، فإن الجهاز المفاهيمي لسيميوطيقا بيرس نابع من مجالات أخرى غير اللسانيات ( الرياضيات و المنطق) فالمنطق بمعناه العام يقول بيرس ليست سوى تسمية أخرى للسيميوطيقا إنه نظرية شبه الضرورية أو الشكلية للدلائل, و حينما أصف هذه النظرية باعتبارها شبه ضرورية أو شكلية فإنني أود أن أقول أنني ألاحظ خاصية الدلائل التي أعرفها .
إن السيميوطيقا تستهدف الكشف عما ينبغي أن يكون و لا تقتصر فقط على ما هو كائن في العالم .
إنه علم الظواهر الموجودة و الظواهر الضرورية و علم الفكر النقدي الذي يفتح مجالات أرحب بين المحتمل و الممكن من العوالم.
و تقوم سيميوطيقا بيرس على الظاهراتية باعتبارها الدراسة التي تصف خاصية الظواهر في مقولاتها الثلاث و يعني ذلك أن السيميوطيقا تتأسس على تحليل مقولات الوجود أي تهتم بتمظهر أو  بتجليات الدليل و لذلك فإن سيميوطيقا بيرس طبيعية و ظاهراتية . و على هذا الأساس تكون السيميوطيقا هي العلم الذي يدرس الدلائل اللسانية و غير اللسانية.
فكيف عرف بيرس إذن العلامة؟
إذا كانت العلامة عند سوسير  هي توحد بين المفهوم و الصورة السمعية أي توحد بين الدال و المدلول فإنها بالسبة لبيرس سيميوزيس Sémiosis و السيميوزيس هي الصيرورة التي يعمل بموجبها شيء ما كدليل و تحتوي هذه الصيرورة بالضرورة عوامل ثلاثة :
 الماثول و هو الطرف الأول من علاقة ثلاثية و  يسمى طرفها الثاني موضوعها و يسمى طرفها الثالث مؤولها Interprétant
فالعلامة هي الأولى حينما تحيل على نفسها و ثانية حينما تحيل على موضوعها و ثالثة حينما تحيل على مؤولها ؛ و يطلق بيرس على الأولى: الأفكار أو الممكنات و يشترط فيها أن تكون مبهمة .
و الأولانية التي يطلق عليهاهي " نمط الوجود الذي يكمن في أن ذاة هي ماهية بشكل موجه دون اعتبار لأي شيء آخر و لذلك فلا يمكن أن تكون غير الإمكان " إن اشتغال شيء ما أو موضوع ما كأول يعني أنه لا يمكن تحديده إلا من خلال خصائصه الذاتية إيجابا كما هو في ذاته فقط دون أن يحيل على شيء آخر ثان.و هكذا فاشتغال الأحمر كأول أي قبل أن يصبح شيء آخر في الوجود ؛ فالأحمر يعني الأحمر كإمكانية و نوعية إيجاب أي أنه في ذاته و لذاته .
 لقد حصر بيرس مقولة الاولانية في الأحاسيس و النوعيات. ويقصد بالأحاسيس '' ذلك النوع من الوعي الذي لا يتطلب أي تحليل أو مقارنة أو صيرورة و لا يتحدد كليا أو جزئيا في فعل يجعل من هذا الحقل من الوعي يتميز عن آخر , إنه فعل ذو نوعية إيجابية خاصة مكتفية بذاتها .
و في تحديد آخر هو اختزال للتعريف الأول يقصد فيه بيرس بالأحاسيس حالة خاصة بعناصر الوعي تتحدد في كل ما هو إيجابي في ذاته دون أي اعتبار لأي شيء آخر كيفما كان نوعه.
إن الإحساس حسب هذا التحديد هو شيء سابق في الوجود، إنه حالة إمكان و هو مجرد و خارج عن حدود الهنا و الآن أي أنه خارج عن حدود التجربة الثانية التي تشكل حالة نمط وجود الثاني . و قد ذهب بيرس إلى أن  هناك وجهة نظر يظهر ضمنها عالم الظواهر بأكمله ، وكأنه مصنوع فقط من نوعيات حسية و هذه النظرة هي تلك التي نتبناها عندما نهتم بكل جزء كما يبدو في ذاته و في كليته ، دون مراعاة أية روابط أخرى .
إن الأولانية باعتبارها مقولة الأحاسيس هي مقولة كل ما في كليته قبل تجليه في شكل من الأشكال و قبل ربطه بالزمان و المكان .
إنها مقولة اللامحدد و مقولة المحتمل و هذا ما يجعلها في حاجة إلى مقولة ثانية يتم عبرها الانتقال من عالم الإمكان و اللاتحدد إلى عالم المشروط بسياق زماني و مكاني ... هذه هي مقولة الثانياتية   فما المقصود بها إذن ؟
إن الثانياتية هي نمط وجود الشيء في علاقته بثان "لكن دون اعتبار لثالث"
إن مضمون هذه المقولة هي التجربة الصافية، و دورها  يكمن في تجسيد المعطيات الموصوفة في الأولانية في أحداث و وقائع محددة .. إنها مقولة الوجود بامتياز .. إن الأول وحده لا يشكل سوى إمكانية داخلة السلسلة Sémiosis و على الثاني أن يحين هذه السلسلة. و عليه فإن الثانياتية هي مقولة التخوم و الحدود ، فالأحاسيس و النوعيات المشكلة لمضمون الأولانية لا يمكنها أن تحقق إلا بارتباطها بالتجربة المعاشة أي بكل ما هو واقعي و فردي ؛ فالإحساس لا يتحدد أو لا يدرك إلا من خلال ربطه بذات عاشت هذا الإحساس ، و النوع لا يمكن إدراكه  إلا من خلال ما يتجسد من خلال هذا النوع .
إن الثانياتية هي مقولة الوجود أي وجود الشيء و الواقعة و الفكرة و الحلم الذي نعيه ، إنها مقولة الهنا (المكان) والآن ( الزمن) لما يحدث في زمان ومكان محددين ، إنها القوة المفاجئة و المجهود الذي يواجه بالمقاومة ؛ إي مقولة الفعل ورد الفعل ، إننا مع هذه المقولة ننتقل من المتواصل المنفلت من كل تجربة إلى الوجود العيني من خلال وقائع.
و رغم كل ما سبقت الإشارة إليه بخصوص هذه المقولة، فإنها تبقى إلى جانب مقولة الأولانية عاجزتين على مدنا بكل ما يكفي لتحديد نمط وجود شيء ما ، لهذا فإن تحديد نمط وجود ما من خلال بعديه الأولاني و الثانياتي يعد غير تام بدون الاستناد إلى مقولة ثالثة ، هي الثالثانية ، فماذا تعني الثالثانية ؟ و ماذا يمكنها أن تضيف للمقولتين السابقتين ؟
الثالثانية هي نمط كينونة الشيء كما هو، و على ما هو عليه مع وضع علاقة تبادل بين ثاني و ثالث .
إذا كانت الأولانية هي نمط وجود شيء ما كما هو إيجابا دونما اعتبار لثان كيفما كان ، و الثانياتية هي نمط وجود شيء ما كما هو من خلال خلق علاقة تبادل بين ثان و ثالث .
إن مقولة الثالثانية هي مقولة القانون الذي يمكن من تبرير علاقة الأول بالثاني ، ذلك أن الأولانية هي مقولة الإمكان و الاحتمال ، والثانياتية هي مقولة التجربة الصافية و الثالثانية هي الشرط الضروري لإنتاج القانون و الضرورة و الفكرة و الدلالة ، فلا يمكن للأول أن يحيل على ثان إلا من خلال وجود عنصر ثالث ( الثالثانية) يربط بينهما و يضعهما في علاقة .
و على هذا الأساس فإن الثالثانية هي مقولة التوسط بامتياز ، فكل ما يتوسط شيئين و يقوم بالربط بينهما يشتغل كثالث .
و التوسط معناه جعل الأول يحيل على الثاني وفق قاعدة تشتغل كقانون.
إن اشتغال الثالثانية كقانون لا يمكن أن يدرك إلا من خلال ما يجسده ، إنه بذلك لن يكون سوى صياغة مفهومية مجردة تمكن الإنسان من التخلص من معطيات التجربة الفردية ، إنه تكثيف لمجموع التجارب البشرية.
يلاحظ من خلال ما سبق أن الثالثانية لا تتعلق بالفرد أو بالتجربة الفردية بل كل  التجارب الفردية تعمها و تشملها، إنها مقولة العام ، مثلها في ذلك مثل الأولانية غير أن عمومية الأولانية هي من نوع اللامحدد و اللامكان   المشروط تحديده بعلاقته بالثاني أي بالتجربة الفردية ؛ أما عمومية الثالثانية فتدخل في إطار النوع المحدد في قانون أو قاعدة، فما دامت الثانياتية هي مقولة الفرد و التجربة الذاتية فإن الثالثاتية و الأولانية هي مقولة العام لكن عمومية الأولانية من نظام الإمكان بينما عمومية الثالثانية هي من نظام القانون والضرورة ، و إذا كانت أنماط الوجود السابقة التي اعتمدها بيرس هي أساس إنتاج و تأويل العلامة . فما هي العلامة عنده ؟ و ما هي مستوياتها ؟
يحدد بيرس العلامة بقوله " العلامة أو الماثول هي شيء يقوم مقام شيء ما بالنسبة لشخص ما ، بأي طريقة أو بأية صفة تتوجه إلى شخص ما ، يعني أنها تخلق في ذهن هذا الشخص علامة موازية و ربما أكثر تطورا ، و أسمي هذه العلامة – يقول بيرس- مؤولا للعلامة الأولى ، وتقوم هذه العلامة مقام شيء ما، هو الموضوع ؛ إنها تأخذ مكان موضوعها لا بهذه الطريقة أو تلك إنما بالإحالة على نمط من الأفكار ، أسميته أحيانا عماد التمثيل -" أداة التمثيل"- ". يختزل هذا التحديد للعلامة عند بيرس العديد من القضايا ، أولها كون العلامة عنده : ثلاثية الأبعاد = ماثول - موضوع – مؤول .
و بذلك تكون مستويات الدلالة داخل العلامة عنده متجاوزة لثنائية التصورات اللسانية الأوروبية ، خاصة تصور سوسير الذي ميز في العلامة بين جانبين : الدال و المدلول .
إن العلامة عند بيرس باعتبارها ماثولا ، يحيل على موضوع عبر مؤول ، تشكل صيرورة سيميائية أو سيميوزيس. و السيميوزيس حسب بيرس هو كل صيرورة يشتغل من خلالها شيء ما كعلامة ، و تستدعي من أجل بناء نظامها الداخلي ثلاث عناصر هي ما يكون العلامة و يضمن استمرارها في الوجود :
ما يقوم بالتمثيل ( الماثول) و ما يشكل موضوع التمثيل ( موضوع) وما يشتغل كمنهجية تقود إلى الإمتلاك الفكري للتجربة الصافية (مؤول).
ـــــــــ الماثول :إذا كان الماثول هو أداة في التمثيل نستعيض بها عن الأحاسيس و النوعيات فإنه يعد الأداة الأولى في الخروج من دائرة هذه الأحاسيس و النوعيات إلى ما يمثل تجسيدا لها ، فإن الموضوع هو الشيء الممثل بواسطة أداة التمثيل ، فالعلامة لا تقوم سوى بتمثيل الموضوع و لا تقول عنه أي شيء ، فهي لا تقود إلى التعريف أو التعرف على الموضوع ، ولقد ميز بيرس بين موضوعين :
        ــ موضوع دينامي : و هو الموضوع كما هو في الحقيقة
        ــ موضوع مباشر: كما تمثله العلامة .
يضعنا هذا التحديد بين نوعين من الإدراك للموضوعات :
 ـــ إدراك نصل من خلاله إلى الموضوع المباشر انطلاقا مما تقدمه لنا عملية التمثيل، أي الموضوع الذي تمثله العلامة باعتباره نتيجة لعملية تمثيل نستحضر من خلالها معطيات التجربة المباشرة في إدراكنا للموضوع؛ و هذا النوع من الموضوعات مباشرا.
ـــ إدراك يخص الموضوع الدينامي و هو يتجاوز معطيات التجربة المباشرة ، إنه نتيجة لكل ما هو معطى بطريقة غير مباشرة ، أي كل ما هو ضمني .
و إذا كان العماد ( التمثيل ) ــ كما تذهب إلى ذلك نيكول سميث ــ هو زاوية النظر التي من خلالها تتم عملية تمثيل الماثول لموضوعه ، فإنه أيضا يحدد من جهة كل ما هو متحقق داخل العلامة ، وذلك بطريقة مباشرة كانتقاء خاص  يترك بالضرورة سلسلة أخرى من المعارف جانبا و يحدد من أخرى بطريقة غير مباشرة ما هو مفترض و قابل للتحقق ضمن سياق معين.
ـــــــــ المؤول : يعتبر المؤول ثالث عنصر من عناصر العلامة التي تتولد في ذهن المتلقي للماثول ، و هذه العلامة ( المؤول) تحل لديه محل موضوعها استنادا إلى زاوية النظر التي هي العماد.
إن المؤول هو الأداة التي تسمح للماثول بأن يحيل على الموضوع ؛ إنه بمثابة الفكرة أو الدليل بالمفهوم السوسيري . فالمؤول حسب بعض الدارسين هو الفكرة التي تسمح للماثول أن يحيل على الموضوع ، و هو بهذا لا يختلف كثيرا عن المدلول كما تصوره سوسير؛ و الأكثر من ذلك أن امرطو إكو يذهب إلى القول " بأن العماد و المدلول و المؤول يعنون في الواقع الشيء نفسه ، مادام ليس من الممكن أيضا تحديد أي مدلول إلا على شكل سلسلة من التأويلات".
استنادا إلى هذا التحديد الذي يرادف الفكرة أو العماد مع المؤول يمكن أن يتضح الفرق أيضا بين المؤول و الشخص المؤول (الشارح) فالمؤول ليس هو الشخص لكنه يعني الوسيلة التي يعتمدها هذا الأخير لإنجاز تأويله مما يستفاد مما سبق أهمية المؤول ، و أهميته تكمن أولا في كونه عنصر توسط لذات التأويل أو الشخص الشارح للتخلص من معطيات التجربة الواقعية الخالصة باعتماده على منح هذه التجربة تأويلات خاصة و من جهات أخرى . إن المؤول بارتباطه بالذوات ليس مؤولا وحيدا ، فهو متعدد ، والتعدد مرتبط باختلاف الذوات المؤولة في جانب و اختلاف الثقافات و المجموعات البشرية في جانب آخر .
و تجدر الإشارة إلى أن هذه العناصر الثلاثة المشكلة للعلامة : الماثول – الموضوع – المؤول  هي ما يشكل عند بيرس مفهوم الصيرورة السيميائية ، وكل صيرورة يمكنها أن تشتغل كعلامة أو كماثول يحيل إلى موضوع عبر مؤول و هكذا دواليك إلى ما لا نهاية . لكن لا نهائية هذه الصيرورة لا يعني أنها حرة، خاصة عند بيرس لأن اللا نهائية في عملية التأويل يمكن التمييز فيها بين حالتين :
 تأويل لا نهائي لا تحده حدود : و وفقا لهذا النوع يدخل التأويل متاهات لا تحكمها أية غاية ولا يحد من جبروتها أي سلطان . فالتأويل من هذه الزاوية لا يهدف الوصول إلى غاية بعينها، فغايته الوحيدة هي الإحالة بذاتها ؛ فاللذة أن لا يتوقف النص عن الإحالة و أن لا ينتهي عن دلالة بعينها ، و ينطبق هذا النوع من التأويل على التصور التفكيكي عند جاك دريدا الذي يرى أنه ( لا يمكن للماثول أن يشتغل إلا من خلال إثارته لمؤول يتحول بدوره إلى علامة و هكذا دواليك إن الخاصية الرئيسية للماثول هي أن يكون ذاته و شيئا آخر في ذات الوقت ، أي الماثول كبنية للإحالة و كقدرة على الانفصال عن نفسه ، وأن لا يكون له وجود في ذاته أي قريبا في المطلق من نفسه ) .
لقد كان هذا الانحصار اللا نهائي لصيرورة التأويل عند دريدا نتيجة لإقصائه أي ذات يمكن أن يستقر عندها عملية التأويل .
تأويل لا نهائي تحده حدود : لكن أهم مميزاته هو أنه تأويل محكوم بمرجعياته و هذا ما ينقضه دريدا . فالتأويل وفق هذه الصياغة يتشكل من سلسلة قد تبدو من خلال المنطق الظاهري أنها لا متناهية ، فكل علامة تحيل إلى علامة أخرى وفق المبدأ المتصل الذي يحكمه الكون الإنساني ؛ إلا أنما يحدد اللامتناهي هو في نفس الوقت ما يقف حاجزا أمام التأويل و يخضعه لإرغامات تدرجه ضمن كون متناه.
و الخلاصة ، إن التأويل ليس مطلقا و ليس حرا ما دام إن العادة باعتبارها ــ كما يذهب إليه بيرس ــ تعمل على كبح جماح كل تأويل .
و قبل الحديث عن العادة لابد من الوقوف عند نوعين آخرين من التأويل : مباشر و آخر غير مباشر (ديناميكي).
ــ تأويل مباشر : و يقوم على الإدراك المباشر خلال تلقينا للعلامة أو ماثول ، إنه ما يشكل عادة المعنى المشترك أو الدلالة المباشرة للمعنى ، فهو كل ما هو موحى به في الفهم الصحيح للعلامة نفسها ، إنه ما يسمى غالبا بدلالة العلامة .
    ــ تأويل ديناميكي ( غير مباشر): و هو الأثر الفعلي الذي يحدد العلامة باعتباره علامة بشكل فعلي ، إنه ما يمكن أن تحيل عليه العلامة بطريقة غير مباشرة ، أي أنه حصيلة لمجموعة من القيم المضافة إلى ما يحيل عليه المؤول المباشر الذي يشكل نقطة انطلاق التأويلات الدينامية . إن المؤول الدينامي يتجاوز كل ما هو معطى  و مجرد و مشترك من خلال استحضار معطيات موسعة للشخص المؤول .
إننا مع المؤول الديناميكي نكون أمام مؤول حسب بيرس تسلم مشعل الحقيقة باعتباره تمثيلا مؤولا و هكذا تنفتح صيرورة أخرى لا نهائية .
و إذا كان المؤول المباشر هو نقطة انطلاق كل تأويل دينامكي يدفع بسيرورة التأويل نحو مسارات لا نهائية ، فإن النوع الثالث من التأويل و هو المؤول النهائي هو تأويل يعمل على إيقاف و لو بشكل مؤقت لهذه الصيرورة و هو ما أسماه بيرس بالمؤول النهائي أو المنطقي Sémiosis ، فوفق هذا التصور إن الصيرورة تنغلق و تتوقف في كل لحظة  ولكنها لا تنغلق و لا تتوقف أبدا .
يحيل مفهوم المؤول عند بيرس على الطريقة التي تعمل من خلالها العلامة على تمثيل نفسها بنفسها باعتبارها في علاقة مع موضوعها .. المؤول النهائي عند بيرس هو ما يعادل ما يطلق عليه مفهوم العادة.
و العادة تعمل على الحد من جبروت السيرورة السيميائية اللامتناهية فهي إيقاف مؤقت لإحالة نهائية للعلامة على علامات أخرى فاتحة المجال بذلك للمتكلمين ليتفقوا سريعا حول الحقيقة في مقام تواصلي معين ، إن العادة توقف السيرورة السيميائية ، إنها بداية تشبه قانون أو قاعدة ، أو بمثابة اتفاق مشترك بين أفراد مجموعة بشرية ، إنها لا تخضع لاختيارات الأفراد ، بل الأفراد هم اللذين يخضعون لها و هذا هو السبب الذي يجعلهم يتصرفون بطريقة متماثلة في مقامات متماثلة، وفق ما يرسمه هذا القانون الذي هو العادة .
إن مصدر العادة حسب هذا التحديد هو المجموعة البشرية  " و فكرة المجموعة البشرية تشتغل باعتبارها مبدأ متعاليا يتجاوز القصديات الفردية للمؤول الفرد ، و هذا المبدأ ليس متعاليا بالمعنى الكانطي للكلمة، لأنه لا يوجد قبل السيرورة السيميوزيسية بل يأتي بعدها "
إن ارتباط العادة بالمجموعة البشرية التي تصبح العادة ضمنها قانونا ، هو الشيء الوحيد الذي يجعلها في الآن نفسه مؤولا نهائيا مؤقتا قابل للتغير، فما يشكل عادة يمكن أن يتجاوز في وقت لاحق .. و بذلك يمكنها أن تدخل في غمار سيرورة تشتغل ضمنها العادة منطلقا أو بداية لسيرورات عديدة و لا نهائية.
أي أن توقف السيرورة التي تمثل في الغالب في العادة،هو توقف مؤقت ، فما يشكل مؤولا نهائيا أو عادة عند مجموعة ، لا يمكن أن يلزم كل المجموعات البشرية.
لذلك فإن هذه العادة قد تشكل بداية لسيرورة أخرى، و قد تفتح مسارات تأويلية أخرى.
إن العلامة عند بيرس عبارة عن شبكة من العلاقات تنقاد إلى أن تحلل إلى أطراف ثلاثة في الأبعاد الأساسية لهذه العلاقات.
إن العلامة منظور إليها في ذاتها أداة ممكنة لإنجاز الدلالة و التواصل.
و لا ترقى هذه الأداة ( الماثول) في الحقيقة إلى غائيتها السيميوطيقية ، إلا بفعل علاقة دقيقة مع موضوع معين، أي ذلك الذي تحيل عليه العلامة ، و لكي يكون بمقدور العلامة تحقيق الدلالة و التواصل، فعليهما أن يستدعيا طرفا ثالثا هو المؤول .. و على هذا الأساس يشكل الماثول مستوى الأولانية و الموضوع مستوى الثانياتية و المؤول مستوى الثالثاتية .
يتبين مما سبق أن تحديد بيرس للعلامة مخالف لتحديد سوسير ، فهو أشمل و أكثر عمومية ، حيث قدم تصنيفا لأنواع العلامات المختلفة ليرسي بذلك نظرية متكاملة للعلامة ... و يمكن ضبط أهم التقابلات أو الفروق الجوهرية بين سيميولوجية سوسير و سيميوطيقة بيرس في النقاط التالية:
1.     إن الوظيفة السيميائية عند سوسير ترتكز على العلاقة الرابطة بين مماثلين و هما الدال والمدلول " ثنائية المبنى" ، فيما يتحدث بيرس عن السيميوزيس التي تستدعي ثلاث مقولات تكون حركة دائرية  و هي الماثول و الموضوع و المؤول ." ثلاثية المبنى" .
2.    لا وجود لتصنيف العلامات الطبيعية عند سوسير كما هو الحال في تصنيف بيرس
( أمارة- أيقون- رمز).
3.    يدرج بيرس في مجال السيميوطيقا بعض الظواهر التي أغفلها سوسير :
-         فثلاثية العلامة ( سيميوزيس) تطبق على الظواهر التي لا تستوجب مرسلا مثل الظواهر الطبيعية، تتلقى كأعراض من طرف المتلقي .
-         إن سيميولوجيا سوسير لم تعمل على أن تبني نفسها ابستيمولوجيا و إنما اعتمدت في تأسيس نفسها على البناء الابستمولوجي للسانيات : ذلك أن أدواتها المعرفية و مفاهيمها و وحداتها ( و طبيعة هذه الوحدات) لا تعدو أن تكون غير ما أمدتنا به اللسانيات السوسيرية .
-         أما سيميوطيقا بيرس فهي ابستيمولوجيا لأنها تمدنا بأدوات معرفية تتوخى تكوين نظرة علمية للعالم باعتبارها مجموعة من الوقائع الدالة.
هذه أهم نقاط التباين و الاختلاف بين مشروع سوسير و مشروع بيرس السيميوطيقي ، وهي اختلافات ترتبت عنها اتجاهات سيميولوجية متعددة و متنوعة لتنوع منطلقاتها و اهدافها.
  و هكذا يصنف مارسيلو داسكال الاتجاهات السيميائية  انطلاقا من وظيفة العلامة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية:
-         - سيميائية التواصل
-         - سيميائية الدلالة
-         - سيميائية الثقافة     

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire